تايت غاليري.. أشهر معارض الفنون في العالم
على لسان من ألسنة التايمس، وفي قلب مدينة لندن عند مشارف حي الفيكتوريا، ترتفع من بين زحمة بنايات وأشجار وصواري أعلام خافقة، بناية تاريخية بيضاء اتكأت على أعمدة عالية، فيما أضفت عليها حلقات متناثرة من الشبيبة وإعلانات متشابكة بالألوان وبضعة زوارق تحاور صفحات الماء طابع الحيوية والمشاكسة، فهي لا تترك للمارة فرصة العبور دون التوقف لاستجلاء المكان المهيب الذي ينهض وراء هذه الجدران الضاجة بأعمال النحت والزخارف، ولاغرابة أن يتجمع على مشارفها، امتدادا حتىكورنيش النهر التاريخي، وطوال ساعات النهار، العشرات من المارة عدا المئات من الرواد الذين تغيبهم البوابة الكبيرة وتقذف بهم إلى دوامة الصالات والأسماء والسحرة والألوان واللوحات والصور والتماثيل التي لا حدود لا نتساباتها الجغرافية والتاريخية والأكاديمية.
إنها بناية "تايت غاليري" واحدة من أعظم معارض الفنون التشكيلية في العالم والتي شهقت بالولادة، لأول مرة كصالة لعرض اللوحات الفنية، قبل ما يزيد على أربعمائة سنة، حين كانت بريطانيا وأوربا كلها قد خرجت توا من ظلام القرون الدامس، ولم يكن ممكنا أن تتحول تلك الصالة البسيطة التي كانت تحمل اسم "المعرض الفني الوطني البريطاني" إلى معلم حضاري له شأن في إطلاق حركة الرسم والنحت في إنجلترا والعالم كله لولا "السير هنري تايت" التاجر البريطاني الذي شغل باقتناء اللوحات وبادر إلى ضمها إلى الصالة التاريخية ودعمها بالمال الذي جمعه من تجارة السكر قبل حوالي مائة سنة، وسرعان ما تشرفت القاعة باسمه، وسرعان ما تشرف هو أيضا بلقب "البارون" ثم "النبيل" وصار يذكر في الدراسات الأكاديمية كدالة على الذوق الرفيع حين يسمو إلى السخاء في التعامل مع إبداعات الفن، حيث شق ذلك التكريم المبكر لفن الرسم الطريق إلى مبادرات دعم متواصلة أخرى تلقاها المعرض من أثرياء وشخصيات بريطانية عديدة.
عام الانطلاقة إلى المجد الفني
يعتبر عام 1897 حاسما في تاريخ المعرض ويعده بعض مؤرخي الفن في إنجلترا عام انطلاق "التايت" الحقيقي، ففي ذلك الوقت حمل اسمه الجديد "تايت غاليري" وانتقل إلى بنايته المهيبة المسترخية على التايمس والتي صممها المهندس سيدني سميث، وبدأ يتلقى لوحات شهيرة ن معارض ومتاحف بريطانية وعالمية مثل المعرض الوطني البريطاني للفنون وبعد عشر سنوات انشئت قاعات جديدة للمعرض بفعل تبرعات إضافية سخية قدمها النبيل جويل دوفين ليضم 300 لوحة زيتية أخرى وأكثر من 20 ألف لوحة مائية وتخطيطات تعبيرية مختلفة، وقد دخلت اللوحات التي تبرع بها الفرنسي "هيولنز" كأول خطوة لانفتاح المعرض الجديد على الأعمال العالمية، في وقت بدأت الثقافة الأوربية تتشكل ضمن قسماتها القومية الجديدة.
غير أنه في العام 1917 بدأت طلائع الأعمال الفنية العالمية الشهيرة تصل إلى قاعات المعرض ليصبح منذ هذا الوقت بمنزلة شاهد للفن العالمي المعاصر وصورة حية عن المعارك الجامحة بين مدارسة واتجاهاته المختلفة غداة ولادة القرن العشرين، وفي العام 1955 استقل الـ "تايت غاليري" عن تابعيته لإدارة المعارض والمتاحف البريطانية، وبدأ محرر اليدين في إقامة المعارض العالمية لمشاهير الفنانين والمثالين وضم أعمالهم إلى قاعاته ما أطلق اسمه إلى المحافل الفنية في عواصم الفن الكبرى كواحد من أهم معارض العالم التي تيسر للمشاهد والباحث وطالب الفن والفنان صورة مقربة عن حال الفن الإنساني المعاصر.
على أن للعام 1990 مكانة خاصة في مشوار "تايت غاليري" إذ قررت شركة البترول البريطانية (برتش بتروليوم) صاحبة المال والنفوذ، أن تدعم، ماليا، برنامجا له باسم (الأعمال الجديدة) يتم خلاله عرض أبرز وأشهر الأعمال الفنية البريطانية مرة كل عشر سنوات مع تويسع المعرض وتنويع خدماته، وفي هذا العام اتخذ قرار بقي لفترة طويلة مثار جدل بين المعنيين من الأكاديميين ومؤرخي الحركة الفنية البريطانية ويقضي بإعادة ترسيم طبيعة لمعرض ليقتصر على أعمال الفنانين البريطانيين وتحول اسمه "والأصح إعادته إلى الاسم الذي كان عليه في القرن السادس عشر" إلى "المعرض الفني الوطني البريطاني"، وبهذا الصدد يستبعد أحد مسئولي الإدارة في حديث معنا القول الذي يدعي إن تغيير طبيعة واسم المعرض قد تم بتأثير شركة النفط، ويقول : إن السبب يمتثل في الحاجة للاهتمام بالفنون البريطانية وبانجازاتا الكبيرة بعد أن تطورت وخطت إلى مجاهل واسعة أنا معنيون بتسليط الضوء على أعمال الفنانين الإنجليز الكبار مثل هوجر وجياكوميتي وكونتستبل وبلوك وميلايس وبايكون. ويضيف قائلا: "على نهر التايمس وفي جنوب شرقي العاصمة لندن يعمل الآن مهندسون على تحويل المحطة الكهربائية مقابل كاتدرائية سانت بولس إلى التايت الجديد".
وماذا عن النحت ، نقصد كيف تعامل التايت مع أعمال المثالين؟
- منذ عام 1937 شيدت قاعات خاصة بأعمال النحت وصارت تقدم المنحوتات والجداريات والأعمال المنفذة بالخشب والمواد الأخرى.
وهل هناك فروع للمعرض خارج لندن؟
- نعم، افتتح عام 1988 فرع للتايت في مدينة ليفربول وآخر فيما بعد في كورنويل.
هل يحظى المعرض بدعم حكومي؟
- نعم، ولكن ليس من بداية تأسيسه، بل ابتداء من عام 1946.
هذه الصالات هذه التيارات
في مدخل التايت تستوقفك خارطة تشير إلى أنك أمام 30 صالة لعرض الرسوم والتماثيل والجداريات وأعمال الجرافيك، عدا عن الصالات الملحقة التي تقدم أعمالاً مميزة لفنانين يحتلون مكانا في خارطة الفنون التشكيلية في بريطانيا، وقد وزعت الأعمال طبقا للتيارات الفنية التي تنتسب لها، فثمة صالات للأعمال التصويرية التي نقلت براعة الفنانين القدامى في تسجيل التفاصيل التي تقع عليها العين وثمة الرومانسية التي أغمست الفرشاة في سجية المشاعر والصبوات، والواقعية التي أعادت اللوحة إلى الشارع وانشغلت بالتشريح، والتكعيبية التي حطمت المنظور وانسجام السطوح، والسريالية التي أباحت التمرد على المسافات ومعايير الأناقة الشكلية التقليدية، والتجريدية التي اختزلت الموضوع إلى ألوان وخطوط وكتل متطامنة ومتناقضة في آن وثمة التيارات التعبيرية الحديثة، "البوب آرت" والبصرية والفنتازيا وما بعدها، وفي جميع هذه الصالات تستمع إلى وشوشة اللوحات التماثيل والجداريات تحدثك عن نفسها وعن عوالمها، وقد يأتيك صوت حفيف الأشجار من هنا أو نشيج مخلوقات من هناك. وكانت سيدة لصقنا قد تقدمتنا إلى صالة تعرض أعمالا فنية تنحو إلى الإعلان، وفجأة- حين دخلت- جفلت وصرخت، فقد اصطدمت عيناها بفوهة مسدس رسمت كما لو أنها تطلق الرصاص باتجاه المشاهد.
البداية : رجل بقبعة سوداء
ومن صالة إلى أخرى راحت تتوالى إنجازات الفنانين الإنجليز ابتداء من لوحة الفنان المغمور "جون بيتس" لرجل بقبعة سوداء كان قد رسمها العام 1945 وعرفت على أنها أقدم لوحة في التايت حتى واقعيا لوسيان فريود التي عرضت هذه الأيام في الصالة الملحقة عبر العصر الفكتوري (عام 1837 وما بعده) إذ برزت مجموعة الفنانين الرواد الكبار "هنتس" و"ايفرت" وغيرهما، وعبر أعمال "فرانسيس بايكون" الذي بعد أعظم رسام بريطاني في هذا القرن، وتعد لوحته "عند قاعدة الصليب" بمنزلة معالجة بارعة لمستويات أزمة الإنسان المعاصر، ويذهب العديد من نقاد الفن إلى أن بايكون- المولود في 1902 والمتوفي قبل ست سنوات- وحده يمكن أن يتحدث، عبر لوحاته العديدة في التايت، عند القدرة الخلاقة لفناني بريطانيا الطليعيين في إعادة بناء وظيفة اللوحة لتكون شاهدة لحيرة وشكيمة وصبوات البشر، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن بايكون المرهف، الموهوب، عاش أهوال حربين كونيتين وولع بالمغامرات ونزعة تمثل الأشياء غير المألوفة منذ صباه حيث طرده والده من المنزل لما وجده مرتديا ملابس والدته، ليجد نفسه، وهو في السادسة عشرة من العمر في العالم السفلي لحي سوهو الزاخر بمخلوقات وحيوات ساخنة وملتبسة، فاستعار من ذلك العالم أولى قسمات أعماله، وقد وصفته "مارغريت تاتشر" مرة بالقول: "إنه رجل فظيع، يرسم أشياء فظيعة".
أما أعمال جياكوميتي التي أنطق فيها البرونز والحديد والجبس الأسود فقد شغلت نفسها بالمحن "الأسئلة" المغيرة على الإنسان من كل جانب حتى كأنك تتهجى روح مخلوقاته وأنفاسه لشدة نحافتها وسقمها، غير أن عصر الاستكشافات العلمية الجديدة ساء أن يزج نزعة التملي الفني في الظواهر والموضوعات والمكابدات في دوامة بيئة مهووسة بالتشكيل والمغامرة والتركيب والإعلان حيث استبحت المسافة بين اللوحة والموضوع وبينها وبين أعمال النحت والجرافيك، وقد سجلت "كاتي دى مونتس" التي أعادت في استخداماتها للقماش والحديد فضيلة البصر إلى دهشة الطولة الأولى، كما برع كرستيان بول تانسكي في التوليف بين رهافة اللمسة الإنسانية المتدفقة وصدمة الإعلان الموحية.
متفرجون أم حكام؟
وتضيف أعمال الفنانين العالميين من رواد وممثلي التيارات والفتوحات الفنية الكبرى إلى بهاء الصالات الثلاثين لمسات عميقة في التعبير والتوضيح والإفادة في أغناء المعارف الفنية، فكانت أعمال بيكاسو وسلفادور دالي ومودريان وكاندنيسكي وغيرهم تأخذ حصتها من مجد السجل الباهر لرحلة الفن الإنساني عبر التحولات التاريخية، وكان الـ "تايت غاليري" قد وضع كل هذه الشهادات الحية في سياق لا يسمح لك بأن تكون محض متفرج عابر، إنه يستضيفك إلى منصة القضاء لتحكم على ما روته تلك الصالات من وقائع